رحلة اليقين (19) - العظمة في كل مكان - د. إياد قنيبي
Description
نعم، مِن السَّهل أن تتكلَّم عن إتقان الخَلْق؛ لأنَّه لو مُثِّلَتْ أنواعُ الكائنات أمامكَ على جدار غرفتكَ في لوحةٍ كبيرةٍ تحتوي كلُّ نقطةٍ منها على صورةٍ لكائنٍ أو جزءٍ منه، ثّم أغمضتَ عينيكَ ووضعت إصبعك عشوائيًّا على أيَّة نقطةٍ، فإنَّ بإمكان العِلْمِ أن يُحدِّثك لساعاتٍ عن عظَمة الإتقان والإحكام في هذه النُّقطة!
لكنْ في الوقت ذاته هناك صعوبةٌ في الحديث عن الإتقان؛ صعوبةٌ لأنَّ الحديث عن نموذجٍ ونموذجين أو عشرةٍ وعشرين من الإتقان يهضِم الموضوعَ حقَّه.
فالإتقان مبثوثٌ في كلِّ تفصيلٍ من تفاصيل هذا الوجود، بل الإتقان يساوي الوجود، قال الله تعالى: ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾
وقال: ﴿ذَٰلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾
لذلك فعندما أقول لك: تعال نرَ نماذج من الإتقان، فهذا يساوي أن أقولَ لك: تعال
نرَ نماذج من الوجود، فالإتقان يساوي كلَّ شيءٍ في الوجود.
إتقان الخَلْقِ يظهرُ في تَهْيِئةِ لساني وفكَّيَّ وأسناني لأستطيعَ التحدُّث لكم عن الإتقانِ في الخَلْق..
يظهرُ في إبصاركم لي وسماعِكم صوتي وفهمِكم كلامي، واحتفاظكم في ذاكرتكم بما أقول..
يظهر حتَّى في حركاتِ المُنكِر الذي يتأهَّب ليَسخَر، أو يُكذِّب ما أقولُ، مع أنَّ كلَّ العمليَّات التي يقوم مِن خلالها بذلك تشمل إتقانًا في تفاصيل خَلْقه..
نحن لا نُقدِّر حالةِ الإتقانِ والنظامِ والإحكامِ التي نعيش فيها، لأنَّنا لم نجرِّب البديلَ عنها، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا﴾ [القرآن 35: 44]، آيةٌ عظيمةٌ حقًّا!
أكثر مِن تسعين عنصرًا طبيعيًا مُكتشَفًا في هذا الوجود، رُتِّبت نيوترونات كلٍّ منها وبروتوناتُه في أنْوِيَةٍ محدَّدة الحجم بدقّةٍ، تجذِب الإلكترونات في مداراتٍ بالأبعادِ اللّازمة، هذه العناصر تفاعلت بقوانين كيميائيةٍ ثابتةٍ لتعطيَ مُركَّبات، فتهيَّأت الفرصةُ للحياة.
غلافٌ جويٌ بالارتفاع والكثافة المناسِبَينِ، يحتوي غازاتٍ بالنِّسب اللازمة، وينقل الموجات الصوتيَّة بسرعةٍ مضبوطةٍ.
تربةٌ مهيَّأةٌ لاستقبال البذور واختزان ماء الأمطار.
ماءٌ بِلُزوجةٍ وخواصِّ إذابةٍ محدَّدةٍ، يتبخَّر عند درجة حرارةٍ معيَّنةٍ ليُشكِّل السُّحب، ويتكثَّف عند درجةٍ أخرى ليهطل مطرًا، وكلُّ ذلك بالمقادير المناسبة لدورته في الطبيعة.
ضوءٌ يسيرُ بالسُّرعة المناسبة.
جاذبيةٌ أرضيةٌ بالمقدار اللّازم، بحيث لا نَسبحُ في الهواء، ولا تلتصقُ أقدامنا في الأرضِ.
أرضٌ تدور بسرعةٍ دقيقةٍ لليلٍ ونهارٍ يتعاقبان